٤ حزيران ٢٠٢٥ 
كتب عماد ياغي لم ينهَر الاقتصاد في لبنان، بل سُحق. لم تسقط الطبقة الوسطى، بل جُرفت كما تُجرف البيوت في فيضانات الكوارث. كل ما كان يربط العامل اللبناني بفكرة «الوطن» تحوّل إلى عبء: راتب بالكاد يصمد لأسبوع واحد، تغطية صحية مثيرة للسخرية تُشبه وصفة طبية بلا دواء، قانون عمل بلا حماية، ودولة تكتفي بالتفرّج. ومن قلب هذا الركام، ينهض العامل لا ليطالب بحقوقه، بل فقط ليبقى على قيد الحياة. في بلدٍ تتقاذفه القرارات الدولية ككرةٍ في ملعب المصالح، وتتنصّل فيه الدولة من أي مسؤولية، صار العامل الحلقة الأضعف في سلسلة لا ترحم. ومن هنا تبدأ الحكاية. القطاع العام قصّته أقرب إلى نكتة سمجة تُروى في مجالس البؤس. موظفون يقبضون رواتب لا تكفي لشراء البنزين الذي يُوصلهم إلى أعمالهم، ثم يُطلب منهم الانضباط، الإنتاج، والانتماء. الإدارات مترهّلة، المكاتب خالية من الورق والحبر والكهرباء، والمديريات تفتح أبوابها على مضض. من يعمل، يعمل بـ«البركة»، ومن لا يعمل، يذوب في لائحة أسماء طويلة تُغذّي ما تبقّى من وهم الدولة. لا خطط لتأهيل الكوادر، لا موارد لتحديث المرافق، ولا أي رغبة في إصلاح جدي. القطاع العام في لبنان تحوّل من كونه عموداً إدارياً للدولة إلى مجرد ملجأ اجتماعي لا يُنتج ولا يُصلِح، بل يُنازع على سرير اقتصاد يحتضر. ومن السخرية أن يُلام الموظف على التقصير، بينما من يدير القطاع لا يجرؤ حتى على كتابة تقرير من دون إذن سياسي. حتى العمل النقابي ممنوع على الموظف في القطاع العام. فالعامل في القطاع العام، ورغم ما يواجهه من إذلال وظيفي ومعيشي، لا يزال محرومًا حتى من حقه البديهي في التنظيم النقابي. لا قانون يجيز له أن ينضم إلى نقابة تدافع عنه، وكأن الدولة تخاف من أن يتعلم الموظف أن له صوتًا. تسلبه حقوقه أولًا، ثم تمنعه من الاعتراض عليها. وفي المقابل، تقدم له بيانات رسمية مملّة، وخطابات مطمئنة لا تُشبع ولا تُقنع، ووعودًا بتصحيح الرواتب «حين تسمح الظروف». والظروف، كما يعرف الجميع، لا تسمح أبداً. في لبنان تآكلت الطبقة الوسطى حتى دفنت تحت أنقاض اقتصاد منهك، ولم يعد العامل اللبناني مجرّد متضرر من الأزمة، بل بات ضحيتها الأولى. لم يكن الانهيار وليد اللحظة، ولم يهبط فجأة من السماء، بل هو نتاج سنوات من السياسات الفاشلة، والمحاصصات، والانصياع لوصفات خارجية تُفرض باسم الإصلاح. لكن الأدهى من كل ذلك أن الأزمة لم تعد محصورة داخل حدود الدولة، بل باتت مفتوحة على تدخلات وضغوط دولية، تستخدم الاقتصاد كوسيلة خنق، والعامل كبش فداء. أما في القطاع الخاص، فدائماً ما كان العامل في لبنان عماد الإنتاج، يتحمّل الأعباء من دون ضمانات حقيقية. من الورش إلى المصانع، من الحقول إلى المرافئ، شكّل حجر الزاوية في منظومة اقتصادية هشّة. لكن مع الانهيار، انهارت الليرة، وتبخّرت الرواتب، وتحوّل العمل إلى عبء بلا عائد. من يتقاضى أجره بالعملة الوطنية صار أسير يوميات لا تكفي حتى لشراء الخبز. الوظائف الثابتة تراجعت، والقطاع الخاص يعمل على خنق الأيدي العاملة برواتب هزيلة ويستفحل في إشباع نهم أرباب الاقتصاد وكأنّ عمال لبنان مجرد أرقام خاضعين لما يسمى بالعبودية الحديثة. أمام هذا المشهد، تقف الدولة في موقع المتفرّج. لا تبادر، لا تواكب، بل تكتفي بتدوير الزوايا وابتداع مسكّنات مؤقتة. لا خطط حماية للعمال، ولا سياسات دعم للزراعة أو الصناعة، ولا أي اهتمام حقيقي بعناصر الإنتاج التي تشكّل العمود الفقري لأي اقتصاد حي. تتصرّف الدولة وكأنها شركة مفلسة تُحمّل الخسائر للموظفين، ولكنها لا تفكّر لحظة في تغيير إدارتها أو مراجعة سياساتها. الزراعة تُترك لمصيرها في مواجهة الكلفة والتغيرات المناخية ومشكلات الاستيراد والتصدير، والصناعة تُخنق بين انقطاع الكهرباء وغلاء المواد الأولية، والمبادرات الفردية تُهمل وكأن النجاح جريمة. الدولة التي يُفترض أن تحمي أبناءها صارت وكأنها تنتظر خلاصها من الخارج، تتفرج على الحريق وتحمّل المواطن مسؤولية الاحتراق. لا تدعم اليد التي تزرع، ولا التي تصنّع، ولا التي تبني. ثم تسأل، بدهشة بريئة، لماذا لا ينمو الاقتصاد ولماذا يغادر الشباب؟ وكأن البلاد تُدار على أوتوستراد، بلا سائق، بلا خرائط، وبلا أي نية للتوقف قبل الارتطام الكبير. ليس المطلوب معجزة. المطلوب فقط أن يُعاد ترتيب الأولويات: أن يكون الإنسان في مقدّمة أي خطة، لا في ذيلها. أن يُعامل العمل بصفته حقاً لا منّة، وأن تعود الدولة إلى دورها كراعية لا كسمسار. ما لم يُصَغ مشروع اقتصادي من الناس ومن أجلهم، بعيداً من الإملاءات، فلن يكون هناك نهوض بل استمرار في السقوط. العدالة الاجتماعية ليست ترفاً نظرياً، بل حجر أساس لأي بلد يسعى إلى الثبات. أما إذا بقي العامل يدفع الثمن وحده، فليطمئن الجميع: الانهيار الشامل ليس احتمالاً، بل حتمية. * رئيس اللقاء الوطني للعاملين في القطاع العام المصدر : صحيفة الاخبار |