١١ أيلول ٢٠٢٥ 
في الثامن من أيلول، يوم محو الأمية العالمي، تتكشف صورة قاتمة عن واقع التعليم على الصعيد المحلي. مناسبة أرادتها الأمم المتحدة لتذكير العالم بأهمية القراءة والكتابة، فإذا بها في لبنان، تتحول إلى جرس إنذار يُعلن انهيار المنظومة التربوية برمتها. فالمدارس الرسمية تعاني تراجعا حاداً في أعداد طلابها، والجامعة اللبنانية التي شكّلت لعقود ملاذ أبناء الطبقات المتوسطة والفقيرة وحتى البرجوازية، تواجه اليوم تراجعا يهدد دورها التاريخي. وبين هذين القطاعين، يتمدد خطر الأمية، ليس بمعناها التقليدي فحسب، بل بما يسمى "الأمية المقنّعة"، حيث قد يُكمل الطفل سنوات دراسية من دون أن يكتسب المهارات الأساسية، او لا يكملها من الأساس. وليس خافيا على أحد، ان الأزمة بدأت مع الاضطراب المالي في 2019. فجأة، وجد آلاف الأهالي أنفسهم عاجزين عن دفع أقساط النقل أو شراء القرطاسية. وقد وثقت تقارير "يونيسف" أن ثلاثة من كل عشرة شباب توقفوا عن الدراسة، فيما قلّص أربعة من كل عشرة إنفاقهم على التعليم. ثم جاءت جائحة كورونا لتضاعف المأساة، فأغلقت المدارس أبوابها، ولم يكن التعليم عن بُعد خيارا حقيقياً إلا لمن يملك الإنترنت والكهرباء. أما الغلاء الذي تلا الازمة، فقد أجهز على ما تبقّى من قدرة الأسر على الصمود، فارتفعت أعداد الأطفال المتسربين إلى أكثر من نصف مليون، بحسب تقديرات منظمات دولية، بعضهم التحق بسوق العمل، وقسم ببساطة بقي في الشارع. في مقابل ذلك، الجامعة اللبنانية لم تكن بمنأى عن هذا التداعي. بياناتها الرسمية تؤكد أن أعداد المسجلين لا تزال مقبولة، لكنها تواجه تقلصا في حصتها من إجمالي طلاب التعليم العالي لمصلحة الجامعات الخاصة التي، وإن ارتفعت كلفتها بقيت أكثر جاذبية لمن يستطيع الدفع. الأسباب معروفة: إضرابات الأساتذة بسبب تدني الرواتب، بنية تحتية متهالكة، غياب دعم الدولة. والنتيجة أن كثيراً من الطلاب اضطروا إلى تعليق دراستهم أو البحث عن فرص خارج البلاد، ما يجعل خطر "تسرب جامعي" حقيقة لا يمكن تجاهلها. إلى جانب الانهيار الاقتصادي، جاءت الحرب الأخيرة لتضيف بعدا جديدا من الفوضى. مدارس الجنوب أغلقت أبوابها أو تحولت إلى ملاجئ للنازحين. وفي هذا الإطار، اكدت تقارير "هيومن رايتس ووتش" في 6 آب 2025 إضافة الى "أوتشا" أن مئات المدارس تعطلت، ما ترك آلاف الأطفال بلا بدائل. هنا تتضح المأساة: طفل حرم من مدرسته، طالب جامعي خسر جامعته وفي الحالتين، تضيع سنوات تعليمية لا يمكن تعويضها بسهولة. "التربية" لا تلتقي بالواقع! على المستوى الرسمي، فإن وزارة التربية نفسها لا تخفي خطورة المشهد. اذ ان تقاريرها الأخيرة تشير إلى أن خسائر التعلم في المدارس الرسمية بلغت مستويات غير مسبوقة، فيما البنك الدولي يحذر من أن الفجوة في القراءة والرياضيات تهدد جيلاً كاملًا بالأمية الوظيفية. ومع غياب خطة إنقاذ متكاملة، يزداد التهديد بأن تتحول الأزمة من تعليمية إلى اجتماعية واقتصادية، عابرة للأجيال. لذلك، في يوم محو الأمية، السؤال لم يعد كيف نرفع نسب القراءة والكتابة، بل كيف نمنع عودة الأمية إلى جيل كامل من اللبنانيين. التعليم الرسمي، من المدارس إلى الجامعة، يقف عند مفترق طرق: إمّا أن يُنقذ بدعم فعلي وإصلاحات جذرية، وإمّا أن يُترك، ليستكمل تفككه، ومعه، تتهاوى قدرة لبنان على إنتاج مستقبل مختلف. الأرقام صادمة: نصف أطفال لبنان خارج المدرسة عملياً، تكشف أرقام "الدولية للمعلومات" التي قدّمها الباحث الأستاذ محمد شمس الدين لـ "الديار" عن حجم الكارثة التربوية: نسبة الأمية في لبنان بلغت نحو 7.6%، فيما وصلت معدلات التسرب المدرسي إلى ما يقارب 52% من الأطفال في سن الدراسة. أرقام كهذه لا تترك مجالًا للشك بأن البلاد تعيش أزمة تتجاوز حدود التعليم لتضرب أساس المجتمع نفسه". شمس الدين يوضح أن: "الأسباب المباشرة تتوزع بين الفقر والجهل، غير أن الأزمة الاقتصادية الحادة كانت العامل الحاسم الذي فاقم التسرب، خصوصا في القرى والأرياف حيث تغيب البنية التحتية التعليمية والدعم الاجتماعي. هنا، يتحول التعليم من حق بديهي إلى عبء مالي، ما يدفع الأسر إلى إخراج أطفالها من المدارس، أو الامتناع عن تسجيلهم أساساً". في جميع الأحوال، هذه المعطيات تتقاطع مع تحذيرات سابقة من منظمات دولية، لكنها تضيف عنصراً محليا مهما: التفاوت الجغرافي. فالتسرب في المدن، على قسوته، يبقى أقل حدّة بفضل توافر بعض البدائل، بينما في القرى يوازي خروج الطفل من المدرسة خروجه النهائي من مسار التعليم. وهذا ما يفسر تزايد حالات "الأمية الجيلية"، حيث ينشأ أطفال في القرن الحادي والعشرين وهم محرومون من أبسط مهارات القراءة والكتابة. استنادا الى ما تقدم، فإن الأرقام التي كشفها شمس الدين لا تعكس واقعا طارئاً بل مساراً متسارعاً، إذا لم يُعالج سريعاً، سيحوّل الأمية من مشكلة هامشية إلى ظاهرة بنيوية في لبنان، مع ما تحمله من تبعات اقتصادية واجتماعية خطرة. تراجع التحصيل الدراسي وانعدام المهارات الاساسية من جهتها، تؤكد ممثلة المتعاقدين في الثانوي، منتهى فواز، لـ "الديار": "أن الحديث عن التسرب وارتفاع نسبة الأمية، مع الأسف، صحيح، إذ ان الأزمة الاقتصادية التي عاشها لبنان منذ العام 2019 حتى اليوم أثرت سلبا في القطاع التربوي. كما أن أقساط القطاع الخاص أصبحت مرتفعة بشكل مخيف. أما بالنسبة الى المدرسة الرسمية، فحتى وإن كان القسط رمزيا، رغم أنه يبلغ حوالي 50 دولارا في المرحلة الثانوية، وفي المتوسط كان مجانيا، إلا أنه بسبب الظروف اضطر صندوق المدارس، الذي يعاني نقصا واضحا، إلى تحصيل أقساط من طلاب هذه المرحلة، قبل أن يُلغى رسوم التسجيل لاحقًا في المرحلتين الأساسية والمتوسطة". وتضيف فواز: "لا يجب أن ننسى أيضا ارتفاع أسعار البنزين، ما أدى إلى مضاعفة أجور النقل، وهي كلها أسباب ساهمت في جعل التلميذ، بدل أن يدرس، يعمل. ولدي طلاب في المرحلة الثانوية كانوا من الأوائل اضطروا إلى التوقف عن متابعة تحصيلهم الدراسي لمساندة أهاليهم بسبب الضائقة الاقتصادية والوضع المعيشي الصعب". وتشدّد: "لا يمكننا القول إننا تأقلمنا، وإنما ربما تعودنا هذا الوضع، ونأمل أن يتغير. الدولة مسؤولة بشكل كبير عن هذه المسألة، إذ يفترض منها تأمين الكتب في المؤسسات الرسمية بشكل مجاني، وتوفير الزي المدرسي، والتكفل ببدل النقل للطلاب، مع إلغاء القسط، حتى وإن كان ضئيلا لا يكاد يذكر". في الخلاصة، كلمة حق يراد بها الحق، أي أن "الديار" عندما تسلّط الضوء على موضوعات حساسة كهذه، فإنها لا تكتفي بسرد الأرقام أو نقل البيانات، بل تتحمّل مسؤولية إعلامية وأخلاقية بالغة الأهمية. الواقع التربوي في لبنان يمر بأزمة غير مسبوقة، هذا البلد الذي كان يوما ما يُسمّى "مدرسة الشرق الأوسط" و "جامعة المنطقة" ينهار أمام أعيننا. إذا لم نرفع الصوت الآن، وإذا لم نضع اليد على الجرح، فسوف يتحول هذا التدهور إلى كارثة جيلية يصعب إصلاحها لاحقا. صحيح إن الأزمة الاقتصادية والسياسية لم تضعف فقط القدرة على التعلم، بل أضرت بالأسس التي قامت عليها منظومة التعليم، بما فيها المدارس الرسمية والجامعة اللبنانية، اللتان شكّلتا عبر عقود مرجعاً للأجيال اللبنانية والعربية وحتى الأجنبية. تجاهل هذه المسألة، أو الاكتفاء بالمرور السريع عليها، لن يكون مجرد تقصير مهني، بل إخفاقاً أخلاقيا يُحمّل الإعلام تبعاته أمام التاريخ. من هنا، نحن في "الديار" ندعو إلى اليقظة والتدخل الفوري، ليس كوسيلة إعلامية فحسب، بل كضابط للضمير الوطني، لكشف الخطر المحدق بالجيل الجديد، قبل أن يتحوّل ما بدأ كأزمة اقتصادية واجتماعية إلى جريمة ضياع المعرفة والمستقبل في لبنان. المصدر: صحيفة الديار |