٢٤ آب ٢٠٢٥

تشير إحصائية صادرة عن مركز الدراسات الاقتصادية والتجارية في وزارة التجارة العراقية إلى أن حجم التبادل التجاري للعراق خلال النصف الأول من عام 2025 بلغ مستويات قياسية مع ثلاث دول تتصدر قائمة الشركاء التجاريين:

الصين: نحو 26 مليار دولار (تشكل أكثر من 60% من إجمالي التبادل التجاري).

تركيا: نحو 7 مليارات دولار.

الولايات المتحدة الأميركية: نحو 4 مليارات دولار.

هذه الأرقام تعكس بوضوح حجم الاعتماد المتنامي للعراق على التجارة الخارجية، لكنها تثير في الوقت ذاته تساؤلات جوهرية حول طبيعة هذا التبادل: هل يقتصر على الاستيراد الاستهلاكي، أم يمكن أن يُعاد توجيهه ليكون أداة لبناء قاعدة إنتاجية وطنية قوية؟

قراءة في الميزان التجاري

1. هيمنة الاستيراد على حساب التصدير:

تشير البيانات المتاحة إلى أن غالبية التعامل التجاري مع الصين وتركيا يتركز على استيراد السلع المصنعة والمواد الأولية.

بينما يظل النفط هو الصادر شبه الوحيد، بنسبة تتجاوز 92% من إجمالي الصادرات العراقية، ما يجعل الاقتصاد رهينًا لتقلبات أسواق الطاقة.

2. خلل في التنويع:

على الرغم من الشراكات الكبيرة، يظل العراق محدود القدرة في تصدير منتجات غير نفطية (لا تتعدى قيمتها 5 مليارات دولار سنويًا).

الصناعات الوطنية غير النفطية ما زالت تواجه تحديات تتعلق بضعف البنية التحتية، وقلة الاستثمار، وتدني مستوى التكنولوجيا.

دلالات سياسية واقتصادية

ورقة ضغط سياسية: 

حجم التبادل التجاري الكبير مع الصين وتركيا يمنح العراق قدرة على التفاوض، شريطة أن يُدار بذكاء استراتيجي يحقق مبدأ المصالح المتبادلة.

فرص جذب استثمارات:

 إذا استطاع العراق أن يربط التبادل التجاري بشروط واضحة لنقل التكنولوجيا وبناء المصانع داخل أراضيه، فسيكسب ثروة من فرص العمل والمعرفة.

تعزيز الاستقرار الإقليمي:

 تنويع الشركاء التجاريين يقلل من الارتهان لطرف واحد، ويمنح العراق مرونة أكبر في مواجهة الأزمات الدولية.

مقترحات لتطوير السياسة التجارية الخارجية

1. ربط الاستيراد بالتصنيع المحلي:

اشتراط أن ترافق عقود الاستيراد الكبرى إقامة خطوط إنتاج أو مصانع داخل العراق (على غرار ما فعلته بعض دول شرق آسيا).

مثال: عند استيراد الأجهزة الإلكترونية من الصين، يمكن إلزام الشركات بفتح وحدات تجميع أو تصنيع فرعية في العراق.

2. تفعيل اتفاقيات نقل التكنولوجيا:

إدراج بنود خاصة في العقود التجارية تفرض على الشركات الأجنبية تدريب الكوادر العراقية وتوريد تقنيات حديثة.

هذا يقلل من فجوة المعرفة، ويمهد لبناء صناعات عراقية منافسة.

3. تشجيع الشراكات الاستثمارية المشتركة (Joint Ventures):

خاصة في قطاعات الأغذية، الصناعات البتروكيمياوية، والإنشاءات، حيث يمتلك العراق مواد خام وموقعًا جغرافيًا استراتيجيًا.

4. تنويع الأسواق:

الانفتاح على شركاء جدد مثل الهند، كوريا الجنوبية، ودول الاتحاد الأوروبي، لتقليل الاعتماد على محور (الصين – تركيا – الولايات المتحدة).

5. تعزيز الصادرات غير النفطية:

عبر دعم الصناعات الزراعية والدوائية والبتروكيمياوية.

تشير الدراسات إلى أن العراق قادر على رفع صادراته الزراعية وحدها إلى 10 مليارات دولار سنويًا إذا استثمر بشكل صحيح في قطاع المياه والتخزين والتسويق الخارجي.

6. تفعيل الدبلوماسية الاقتصادية:

تحويل السفارات العراقية إلى منصات جذب استثمار، بدل أن تكون مجرد واجهات بروتوكولية.

خلاصة

إن أرقام الميزان التجاري للعراق مع الصين (26 مليار دولار)، وتركيا (7 مليارات)، والولايات المتحدة (4 مليارات) لا ينبغي أن تُقرأ بوصفها مجرد مؤشرات مالية، بل بوصفها أدوات قوة وفرص استراتيجية.

العراق بحاجة إلى أن يتجاوز عقلية "المستورد المستهلك" ليصبح شريكًا فاعلًا في سلاسل القيمة العالمية. هذا لن يتحقق إلا بسياسة تجارية متوازنة، تضع في أولوياتها: نقل التكنولوجيا، دعم الصناعات الوطنية، خلق فرص عمل، وتنويع الأسواق.

وبذلك، يمكن تحويل التجارة الخارجية من "أرقام جامدة" إلى رافعة حقيقية للتنمية والاستقرار الاقتصادي والسياسي.

البروفسور د.ضياء واجد المهندس 

رئيس مجلس الخبراء العراقي 

تنويه:

الآراء والمواقف المنشورة في هذا الباب تعبّر عن رأي صاحبها فقط، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي أو توجهات إدارة الموقع .