٢٧ أيلول ٢٠٢٥ بقلم محمد الحباسي 
الموانئ البحرية ليست مجرد نقاط عبور للبضائع والمواد؛ بل هي مراكز استراتيجية حيوية تتقاطع فيها السياسة والاقتصاد والتاريخ الاجتماعي. منذ القرن العشرين وحتى اليوم، شكلت الموانئ مسرحًا لتفاعلات حاسمة بين العمال والرأسمالية، بين مطالب العدالة الاجتماعية ومصالح الحرب والسيطرة الاقتصادية، وبين التضامن المحلي والتحرك الدولي. خلال القرن العشرين مثلت الموانئ مسارح لملاحم نضالية إنسانية رسمتها الطبقة العاملة. نضال عمال الموانئ يتيح قراءة متعددة المستويات: البعد التاريخي: يربط بين الإضرابات منذ الحرب العالمية الأولى وحروب التحرر، وصولًا إلى تحركات عمالية معاصرة ضد الإبادة في غزة. البعد الاقتصادي: يُظهر قدرة العمل النقابي على تعطيل سلاسل الإمداد، وفرض تكاليف مباشرة على الشركات والدول، خصوصًا في سياق التجارة المعولمة وسلاسل القيمة المعقدة. البعد السياسي والأممي: يُجسد النقابات كقوى فاعلة سياسيًا، قادرة على تحويل الموانئ إلى منصات ضغط دولية، تتكامل مع حركات التضامن العالمية مثل أسطول الصمود وحملات Block the Boat. البعد الأخلاقي والإنساني: يربط العمل النقابي بالمسؤولية الاجتماعية، حيث يصبح رفض تفريغ أو شحن السفن وسيلة لمواجهة سياسات الإبادة والاحتلال، وتحقيق تضامن حقيقي مع الشعوب المضطهدة. نضال عمال الموانئ ضد الإبادة في غزة: تواصل مع إرث نضالي عريق الموانئ البحرية تشكّل نقاطًا استراتيجية بين الاقتصاد والسياسة، حيث تمر عبرها المواد، الأسلحة، والإمدادات الأساسية. أي تدخل من العمال في هذه النقاط له أثر فوري على قدرة الدول أو الشركات على تنفيذ سياساتها الحربية والتجارية. تاريخيًا، لم يقتصر نضال العمال على المطالب القطاعية والتريدونينية فقط، بل تجاوزها إلى أدوار سياسية وأممية جسدت على أحسن وجه موقع البروليتاريا الحاسم في المنظومة الرأسمالية وكقوة طبيعية حاملة لراية مستقبل إنساني خال من الحروب ومبني على للتضامن والتعاون والمساواة الحقيقية بين الشعوب. الحرب العالمية الأولى: أضرّت إضرابات جزئية في موانئ مرسيليا وهافانا بشحنات الأسلحة، وتسببت في تكاليف إضافية بملايين الفرنكات الذهبية. بين الحربين: إضرابات الموانئ الأوروبية عطّلت شحنات نحو المستعمرات، ورفعت تكاليف النقل بنسبة 15–20%. الحرب العالمية الثانية: تعطيل عمال الموانئ في فرنسا وإيطاليا ساهم في تأخير عمليات عسكرية نازية، حيث تم إبطاء أكثر من 15% من الشحنات العسكرية في مرسيليا وحدها، بتكلفة تعادل ملايين الدولارات يوميًا. حروب التحرر (الخمسينات – السبعينات): تعطيل الشحنات في موانئ أستراليا، بريطانيا، وإيطاليا أثّر على حرب فيتنام والعمليات الاستعمارية في الجزائر. السبعينات – التسعينات: رفض عمال الموانئ في جنوب إفريقيا وأمريكا اللاتينية شحنات لدعم الدكتاتوريات والأنظمة الفصلية، والعنصرية مسبّبًا خسائر مباشرة للشركات. الألفية الجديدة: 2003 – غزو العراق: عرقلة شحنات عسكرية أمريكية في بريطانيا وإيطاليا أضرت بسلسلة الإمدادات بملايين الدولارات. غزة (2009–2023): رفض عمال الموانئ في جنوة، بلباو، مرسيليا، وأوكلاند تفريغ أو شحن سفن إسرائيلية. كل يوم مقاطعة لسفينة “Zim” في أوكلاند (2014) كلف الشركة حوالي 4 ملايين دولار. في انسجام مع هذا مع هذا الإرث العريق والمتواصل، يبرز ميناء جنوة كمثال بارز على كيفية توظيف العمال لنشاطهم النقابي في إطار تضامني أممي فعّال. في أحداث السنوات الأخيرة، قاد العمال في جنوة حملات رفض تفريغ السفن الإسرائيلية أو تحميلها، متأثرين بإرث الإضرابات التاريخية ضد سياسات الاحتلال والإمبريالية. هذا النضال تزامن وتكامل مع نشاط أسطول الصمود العالمي لكسر الحصار على غزة والذي يضم شخصيات من أكثر من 44 دولة من بينهم إيطاليون واسبان وتونسيون والذي يهدف إلى كسر الحصار عن غزة عبر تنظيم رحلات شحن مدنية تحمل مواد إنسانية، ودعم التضامن الدولي مع الفلسطينيين وقد ساهمت في احتضانه واستقباله في تونس المركزية النقابية الأعرق والأكثر تمثيلا للشغيلة في تونس وهي الاتحاد العام التونسي للشغل الذي أبدى دائما موقفا منحازا للقضية الفلسطينية ونظم عدة فعاليات إسنادا لغزة وتنديدا بالإبادة الجماعية والتجويع. “إذا فقدنا الاتصال بسفن الأسطول ولو لعشرين دقيقة، فسنوقف أوروبا بأكملها”. هكذا صرح عضو نقابة الموانئ المستقلة CALP في ميناء جنوة ريكاردو رودينو عند سؤاله عن التهديدات الإسرائيلية ضد أسطول الصمود العالمي. فتعاون العمال في جنوة مع أسطول الصمود لم يقتصر على توفير الغطاء النقابي بالامتناع عن تفريغ السفن وتحميلها بالعتاد العسكري الموجّه الى الكيان بل شمل تنسيقًا عمليًا لتأخير أو منع دخول السفن العسكرية الإسرائيلية إلى الموانئ المحلية منذ شهر جوان من العام الجاري، مما أظهر كيف يمكن لنضال محلي نقابي أن يمتد تأثيره ليصبح جزءًا من حركة مقاومة أممية متكاملة. الميناء مسرح لإبداع أشكال نضالية جديدة وحلقة التقاء وريط بين النضالات العمالية والنضالات المدنية والحقوقية الأخرى في صيف 2014، حين كانت غزة تحت القصف الإسرائيلي، تحوّلت بعض موانئ الساحل الغربي للولايات المتحدة إلى ما يشبه ساحات معارك رمزية. هناك، وُلدت حملة Block the Boat بقيادة منظمات الجالية العربية ونقابة عمال الموانئ ILWU. لم يكن الأمر مجرّد وقفة احتجاجية، بل هندسة دقيقة لعمل مقاوم: ناشطون يستعملون تطبيقات تتبع السفن عبر الأقمار الصناعية، يتعرّفون على مواعيد رسوّ بواخر “زيم” الإسرائيلية، وينظمون حشودًا تمنع السفن من الرسوّ أو التفريغ لأيام. النقابة بدورها وفّرت الغطاء القانوني عبر التمسك ببنود “الصحة والسلامة”، مما منح العمّال الحقّ في رفض العمل وسط أجواء مشحونة بالتوتر. النتيجة: خسائر بملايين الدولارات لشركة زيم، وصورة عالمية لطبقة عاملة قادرة على تعطيل شريان رئيسي من شرايين التجارة الدولية. هذا النموذج الأمريكي تميّز بقدرته على دمج تقنيات حديثة مع تقاليد نضالية قديمة. فبينما اعتمد العمّال في الماضي على الإضراب الكلاسيكي، أعادت حملة Block the Boat تعريف الفعل العمّالي في عصر العولمة الرقمية، حيث صار بالإمكان رصد السفن في عرض البحر وتطويقها قبل وصولها إلى الميناء. وهو ما حوّل الميناء من فضاء اقتصادي مغلق إلى مسرح مواجهة مفتوح تتقاطع فيه النقابات مع حركات اجتماعية، من منظمات يهودية مناهضة للصهيونية إلى حركة “احتلوا وول ستريت”. في المقابل، كان المشهد الأوروبي مختلفًا في الشكل لكنه متقاطع في الجوهر. في مرسيليا، برشلونة، وجنوة، لم يكن الأمر كمائن لوجستية بقدر ما كان مواقف نقابية ذات حمولة سياسية وأخلاقية مباشرة. نقابات الموانئ هناك أعلنت بشكل صريح رفضها التعامل مع أي شحنات عسكرية متجهة لإسرائيل. في فرنسا، استعاد العمّال ذاكرة إضرابات 1949 ضد حرب الهند الصينية، ليثبتوا أن الميناء يمكن أن يكون منصة لمعارضة السياسات الاستعمارية. في إيطاليا، استند نقابيو جنوة إلى مواد دستورية (الفصل 11 الذي يرفض الحرب كأداة لحل النزاعات) وإلى القانون 185/1990 الذي يمنع تصدير السلاح نحو مناطق النزاع. أما في إسبانيا، فقد قدّم عمال برشلونة خطابًا أكثر إنسانية، معلنين أن “الموانئ ليست مكانًا لتمرير أدوات القتل”، في موقف لقي صدى واسعًا داخل الرأي العام. إذا كان النموذج الأمريكي قد ركّز على التكتيك الميداني والابتكار التنظيمي، فإن النموذج الأوروبي حمل طابعًا رمزيًا – سياسيًا أوضح، يربط العمل النقابي بالموروث التاريخي والنصوص القانونية. كلاهما، رغم اختلاف الأدوات، يلتقي عند نقطة جوهرية: تحويل الميناء إلى أداة ضغط استراتيجي قادرة على تعطيل سلاسل التوريد في الاقتصاد المعولم، وبالتالي جعل التضامن مع فلسطين ليس مجرد شعار أخلاقي بل قوة مادية محسوسة. إنّ قراءة متوازية لهذين المثالين تكشف عن ملامح تضامن نقابي عالمي يتشكل وفق خصوصيات السياقات المحلية. ففي الولايات المتحدة، حيث الهيمنة المطلقة لرأس المال والشركات الخاصة، اتخذ التضامن شكل “مقاومة ذكية” تعتمد على الفعل المباشر والاختراق الإعلامي. بينما في أوروبا، حيث للنقابات جذور عريقة وصلات تاريخية بالنضالات المناهضة للاستعمار والفاشية، ارتبط التضامن أكثر بالذاكرة والشرعية الأخلاقية والقانونية. لكن في الحالتين معًا، يظهر بوضوح أن الطبقة العاملة العالمية بصدد إعادة الاعتبار لدورها التاريخي وإحياء أمجاد القرن العشرين: العمال ليسوا مجرد طرف في معادلة اقتصادية، بل فاعل سياسي يملك القدرة على فرض حصار من نوع جديد، حصار لا تفرضه الجيوش ولا القرارات الرسمية، بل الأيدي التي ترفض أن تساهم في جرائم الحرب من خلال تفريغ حاوية أو تحميل سفينة. نضال عمال الموانئ أكثر فعالية من بقية أشكال النضال الأخرى تعددت أشكال إسناد الحق الفلسطيني التاريخي في تقرير المصير واتخذت صورة متنوعة وقد برز هذا النوع خاصة خلال حرب الإبادة والتجويع المفروضتين على غزة على غرار حملات مقاطعة الشركات والبضائع الصهيونية والعرائض والوقفات الاحتجاجية والمظاهرات الشعبية الواسعة وهي كلها أشكال جد هامة ومؤثرة لدعم الشعب الفلسطيني وفضح الممارسات الوحشية للكيان الصهيوني المعربد وكشف وهمية أسطورة الشعب المظلوم. إلا أنه من بين كل هذه الأشكال تكتسي حركات عمال الموانئ مكانة خاصة فنضال الموانئ يمثل بمثابة قطعة لشريان النظام الرأسمالي ذلك أن تعطيل السفن مباشرة يولّد أثرًا ملموسًا على الإمدادات ويكبّد الشركات خسائر مالية كبيرة وذلك مقارنة بمقاطعة المنتجات الصهيونية وحملات التضامن الأخرى: تأثيرها غالبًا رمزي وسياسي، لكنه أقل قدرة على إحداث خسائر مالية مباشرة أو تعطيل العمليات اللوجستية. فالفعل العمّالي في الميناء يجمع بين الأثر الرمزي والاقتصادي المباشر، ويصبح أداة ضغط فعّالة على الدول والشركات، ما يجعل التضامن مع الشعوب المضطهدة قوة ملموسة وبآثار محسوسة على الأرض، وليس مجرد شعار أخلاقي. الموانئ تمثل أكثر من 80% من التجارة العالمية (وفق بيانات البنك الدولي). أيّ تعطيل فيها، حتى لساعات، ينعكس على سلاسل التوريد العالمية التي تشتغل بمنطق “التدفق المستمر”. كما أن النظام الرأسمالي يعتمد على الزمن: كل تأخير يعني خسائر مباشرة في الأرباح. نضالات عمال الموانئ بيّنت أن الطبقة العاملة تمتلك قدرة بنيوية على خنق الرأسمالية والإمبريالية دون الحاجة إلى سلاح، فقط عبر تعطيل حركة البضائع. هذه المقارنة الموجودة مؤكد على أهمية دور الطبقة العاملة في بناء مستقبل إنساني أكثر عدلاً ودون حروب. الطبقة العاملة قاطرة مستقبل الإنسانية الطبقة العاملة ليست طرفًا اقتصاديًا فقط، بل فاعل سياسي واجتماعي عالمي قادر على التأثير في مسار الحروب والسلام وهي تضطلع بدور طلائعي وتأثير نوعي حاسم ومصيري وقد أكد نضال عمّال الموانئ في دعم غزة وربطه بالأشكال الاحتجاجية الأخرى على هذا الدور الحاسم والمحدد. هذا المنظور يضع العمال كحجر أساس في مقاومة الرأسمالية وما تسببه للإنسانية من مآس وويلات ويعطي للطبقة العاملة دورًا استراتيجيًا في بناء مجتمع عالمي جديد خالٍ من الاستغلال والهيمنة وقائم على العدالة والتضامن. حيث كل إضراب واعٍ أو رفض لتحميل سفينة يساهم في حماية البشرية من أزمات الحروب والإبادة. يمكن اعتبار كل نضال عمالي محلي أو عالمي، سواء كان رفض تحميل سفينة، أو إضرابًا عامًا، أو دعم الحركات الشعبية، جزءًا من صراع الطبقة العاملة الأممي صراع يحدد مسار التاريخ ومستقبل الإنسانية. فالطبقة العاملة، وفق هذا المنظور، هي المحرك التاريخي للتغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ولا يمكن لأي مشروع تحرري أو اشتراكي أن ينجح دون هذا الفاعل التاريخي. إن نضال العمال ورفضهم تلطيخ أيديهم بجرائم الرأسمالية والصهيونية يؤكد بقوة على راهنية الشعار الماركسي الأصيل: يا عمال العالم وشعوبه المضطهدة اتحدوا” الخلاصة إن نضال عمال الموانئ يُظهر قوة الطبقة العاملة، التي تجمع بين الإرث النضالي التاريخي، التأثير المباشر على سلاسل التوريد وعلى البنية الرأسمالية من خلال خلق أشكال متعددة ومتنوعة لمقاومتها ورسم الأفق لبناء عالم أكثر عدالة وإنسانية ودون حرب. الميناء هكذا يصبح استاد الشعوب، حيث تتلاقى الرايات العمالية مع رايات التحرر الوطني، وهو ما يعيد البريق للشعار المرعب للرأسمالية: يا عمال العالم وشعوبه المضطهدة، اتحدوا المصدر: موقع صوت الشعب في تونس تنويه: الآراء والمواقف المنشورة في هذا الباب تعبّر عن رأي صاحبها فقط، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي أو توجهات إدارة الموقع . |